رواية تلات ورقات د منال الشربيني 17- مصر 🇪🇬

 رواية تلات ورقات 



د منال الشربيني  مصر 🇪🇬

17-

مصر- فاصلة- إتكو

يبدو أن الشتاء قد عامل هذه المدينة بقسوة، كانت المرة الأولى التي أدخل فيها هنا، بل إنني ولأول مرة، أعرف أن هنالك مدينة تسمى إدكو تقع على أطراف الإسكندرية، كانت الأراضي الطينية قد انشقت بالكاد لتكشف عن ممر ضيق يسمح بمرور سيارة متوسطة الحجم، وكان السائق يحاول قدر الإمكان تفادي الأماكن الموحلة، وكنا أنا والمحامي وولدي قد اتخذنا مقاعدنا في السيارة التي وتًّرها الطريق. لم نك نعرف الطريق التي تؤدي إلى المحكمة، فاتصلنا بجميلة، كان صوت جميلة يدل على أنها امرأة ريفية طيبة، أما المحامي فتدلني نبرة صوته على أنه محام مخضرم يحمل من صفات الرجولة والشهامة الكثير.

 وحين دخلنا المدينة سألنا عن الجامع الكبير، حسب وصف جميلة،فلما وقفت بنا السيارة لدى باب الجامع، اتصلت بها، وما كادالجرس يرن حتى جاءني صوتها متلهفًا ومرتعبا:

- أستاذة، هل ستعتذرين لسوء الأحوال الجوية؟

- نحن هنا يا جميلة، سيارتنا تقف بجوار الجامع الكبير عزيزتي.

- حقا؟، أشكرك، سوف أتيكم بعد دقائق.

- لكن السيد صادق المحامي لا يرد.

- لا، ربما أنه لم يسمع، فالمحكمة هنا لا تبدأ قبل العاشرة، مازال الوقت مبكرًا، انتظروني.

مرت ربع ساعة قبل أن يرن هاتفي.

- جميلة، أين أنت؟

- بجواركم، هل أنتم بداخل السيارة السوداء الشيفروليه؟

- نعم، نحن.

- أنا على الناحية الأخرى من الطريق، سأعبر إليكم حالًا، ونظرنا جميعًا فرأيناها؛ امرأة قروية بسيطة، تبدو عليها علامات القلق، وبدا أنها تتوجس منا خيفةً،أيضا، لو كنت في موقفها،لشككت في الهواء الذي أتنفسه، يالها من مسكينة، لا بد أنها تخشى من المخبرين ولا بد أنهم سببوا لها فوبيا الأماكن المفتوحة.

نزلنا جميعًا من السيارة، وقابلتنا هي بترحاب شديد؛ سلمت على الجميع بروح فتاةٍ مرحة، كان تضع أحمر شفاه، وكحلًا، كانت عيونها زرقاء، فأشفقت عليها كثيرًا، وضحكت في آن معًا؛ إنها تتمسك بحريتها إلى آخر وقت، كان أحمر الشفاه يعكس رغبةً دفينةً وأملًا في النجاة.

-أين طريق المحكمة؟

- مازال الوقت مبكرًا، سنشرب الشاي في بيتي أولًا، كما أن حماتي ترغب في رؤيتك يا أستاذة.

تبادلنا جميعًا النظرات، ثم قال المحامي: لا بأس.

حشرنا جميلة بيننا في السيارة، وتلكعت بنا السيارة وهي تعرج بين الممرات الضيقة، حتى وصلنا إلى بيوت قديمة، تتراص كالأكواب بجوار بعضها البعض، ثم نزلنا أمام بوابة حديدية صغيرة، بنية اللون، وتقدمتنا جميلة.

- تفضلوا، من هنا، دخلنا ساحة وسيعة، خرج من وسطها سلم طويل، نقلنا إلى الدور الثاني، فوجدنا أنفسنا أمام باب اصطف أمامه ثلاثة أشخاص، أحدهم زوج جميلة، والآخران ولداها الصغيرين، وفي الخلفية، تجلس امرأة عجوز للغاية؛ كانت تحاول النهوض لكي تستقبلنا، عرفنا فيما بعد، أنها حماة جميلة، استقبلنا الدار بمن فيه بكل حفاوة، وقالت جميلة:

- هذه هي الأستاذة فريدة، يا حاجة.

- أهلا وسهلا، شرفتينا، لقد عرفت أن الله سيجعل لجميلة مخرجا، فهي سندنا جميعًا، هي رجل هذه الدار، وكنت أدعو الله أن ينقذها، فهي بريئة، والأمر كله كيدي، لأنها وصية على أموال زوجها، فليلعن لله الشيطان الذي جعل أحد ابنائي يتواطأ مع المحامي كمال، كي ينغصوا عليها حياتها، فتضطر هي إلى إسكاتهم بالمال. نظر إلى المحامي نظرة فهمت منها أنه يريد للعجوز أن تسترسل، فبعد قليل سأدلي أنا بشهادة مهمة تبريء ساحة جميلة، وكان يريد ان يتأكد أن ذمتها بريئة من أية أموال طالب بها كمال في معرض شكواه ضدها. 

 كان الأمر يدعو للشفقة، فزوج جميلة يعاني من مرض عصبي، وبدا الأمر واضحًا، فهو يرتعش طوال الوقت، حتى حين استقبلنا،لاحظت أنه لم يتمكن من الجلوس بسهولة، وكانت العجوز تصف لنا كيف أن المخبرين هددوا أمنهم مرات كثيرة، وكثيرًا ما اضطر المحامي إلى أن يطعمهم بعض المال، كي لا يذهبوا إليها عند الفجر. كانت المرأة تتكلم وتبكي طوال الوقت، ورحت أراقب كل شيء بالمنزل، ولم يوجعني غير الأطفال، وبعد قليل دخلت طفلة ترتدي زيًّا مدرسيًا، قدمتها جميلة لنا:" براء ابنتي، الصف الثاني الابتدائي". لكم هو مجرم هذا المحامي الذي يروع بيتًا تقوم على رعايته امرأة. وتختبيء فيه أرواح ضعيفة، سيكون مصيرهم مروع لا محالة، إن تم إيداع جميلة السجن. رحت ألعن كمال وزوجته طوال الوقت، وكنت أسمع كلمات الله طول الوقت ترن في أذني: وعزتي وجلالي لأنصرنك ولو بعد حين"

 أصرت جميلة أن نتناول الفطور في بيتها، وحتى لا نصدر لها أية مشاعر سلبية، قمنا جميعا إلى المائدة، وجلس زوجها معنا، وأكلنا جميعًاالفول والفلافل الشهية والخبز البلدي، والليمون المعصفر، والبادنجان المحشو بالثوم والشطة، ثم وزعت علينا أعواد النعناع، وبعد أن تناولنا الشاي اللذيذ، اتصلت بالمحامي فقال لها يمكنكم المجيء إلى المحكمة الآن، فتحركنا جميع تتبعنا دعوات الحماة ويشكرنا ولداها، وفجاة قالت ابنتها:

- أمي، هل ستعودين اليوم؟ أم انهم سيأخذونك إلى السجن؟

- ساعود يا حبيبتي، لقد جاءت أستاذة فريدة إلى هنا كي تفك قيدي.

كانت كلمات الطفلة موجعة لنا جميعًا، يا إلهي، ماهذاالعبث؟؛ لقد خيم الظلم هنا وقبع في دار جميلة طويلًا لأن محاميًا أخل بشروط المهنة، وعاث في الأرض فسادًا بموجب "كارنيه".

وصلنا الشارع الذي تنتصب فيه المحكمة، ووقفت السيارة أمام جمع كبير من الناس، لاحظت ان الجميع يرتدون الزي الفلاحي؛ القفطان ذي الأكمام الواسعة، والصديري المكسو بخطوط فضية. كان لهم جميعًا وجوهًا جميلة، أثرت فيها الشمس بشكل واضح، وكان غالبيتهم من كبار السن، واتصلت جميلة بمحاميها الذي ظهر أمامنا على الفور، وراح يتفحصنا جميعًا، ثم سلم علي وقال: أهلا يا أستاذة، شرفنا بك كثيرًا، وبادلناه جميعًاالتحايا، وفجأة قالت جميلة للمحامي:

 - انظر، هذا هو المحامي الذي يتابع القضية بدلًا من زوجة كمال، أنا أعرفه جيدً، إنه يأتي في كل مرة إلى الجلسة فيتابع الأحداث، ثم يحمل هاتفه و يخبرهم بما انتهت إليه، إنه هنا اليوم، كالعادة، لينقل إليهم الأخبار، فالتفت إليه فوجدته يتابعنا بالفعل من خلف نظارته، ثم يتكلم في الهاتف، وانتبهت إلى أنه يصف للطرف الآخر ملامحي، فقلت في نفسي، فليذهبواإلى الجحيم جميعًا.

وبعد ثوان دعانا المحامي لدخول القاعة. فلما ولجنا الباب،أصابني الذهول، كان المكان غير جيد التهوية، وبدت المنصة عالية بعض الشي؛ يجلس إليها خمسة أشخاص، التفتوا إلينا جميعا بمجرد دخولنا، فقد كنا بالفعل غرباء، كان المعاطف السوداء التي نرتديها تميزنا كثيرًا، ومن الطبيعي أن يتساءل المحامون في القاعة فيما بينهم عن سبب وجودنا، ورحت اتفحص القاعة الوسيعة، وأشفقت على القضاة كثيرًا، كانت منظر القاعة مزرٍ للغاية، لا يليق بمكانة قاضٍ مبجل ومنصة تتكلم بسم الله على الأرض. وتفوح الروائح الكريهة فيها من هنا وهناك. اتخذنا مقاعدنا وجلسنا بانتظار أن ينادي الحاجب  رقم القضية، ركزت كثيرًا على طريقة تعامل القاضي مع المحامين والشهود والمشتكين والمشكو في حقهم، وشكرته في نفسي كثيرًا؛ لسعة صدره، وهدوئه، وحسن استماعه للكل، ولمحته بين الفينة والفينة يرمقني هو ومن معه بنظرات خاطفة، كنت أقرأ وجوههم جيدًا، وأعلم أنهم يقولون بينهم وبين أنفسهم: ترى، مالذي جاء بهذه السيدة إلى هنا؟ وأي تهمة تحمل؟، شكلها يوحي بأنها ارستقراطية" كانت كل القضيا التي استمع إليها القاضي قبل أن يحين دورن تخص الخصومات على الأرض، والمياه، وتحويل مسارات لترع، وقراريط مسروقة ومحاصيل محروقةبفعل فاعل. و

حين جاء دورنا، اتجهت كل الأنظار إلينا جميعًا، فالجميع يعرفون جميلة ويعرفون أهل زوجها، وجميعهم أيضا يتطلعون معرفة سبب مجيئها مع هؤلاء الغرباء إلى المحكمة، وشعرت بنظراتهم المتسائلة، وفضولهم ينخز جسدي حين تقدمت جميلة، وخرجت معها إلى الممر الذي يؤدي إلى المنصة،ووجدت الجالسين إلى المنصة بما فيهم القاضي يتنفسون الصعداء حين بدأ محاميي بشرح الأمر للقاضي، وكيف أنني هنا اليوم لكي أقسم بالله العظيم ثلاثًا أنني لا أسأل هذه المتهمة مالًا، ولا أعلم عن فحوى هذا الأمر برمته شيئًا، وأنني لم أوكل المحامي. لقد قرأت الارتياح على وجوه الجميع، فملامحي، وهيئتي، لا يوشيان بالتعدي، أو الجنوح. بعدها صدح محامي جميلة بمرافعته بصوتٍ عالٍ، وتكلم كثيرًا عن مطاردة المخبرين لها، كان السيد صادق بصوته الجهوري يعلن براءة جميلة امام قرية بأكملها، فبعد قليل ستطير الأخبار لتعلن براءتها. وطلب المحاميان تحويل المحامي المدلس للنيابة، وبكت جميلة من الفرحة، وعانقتني، فقد كانت شهادتي صك براءة لها، وفك رقبة من مطاردات المخبرين وقوة تنفيذ الأحكام.


يُتْبًع...

Daily graph Arabia 

إرسال تعليق

0 تعليقات